Tuesday, February 7, 2012

إن حملت الأنفس ما لا تطيق أطلقت الألسن ما لا يليق ... إنها الحرب إذن!


إن حملت الأنفس ما لا تطيق أطلقت الألسن ما لا يليق ... إنها الحرب إذن!


فى زمن الجنيه الجبس  (كما يحلو لأحد أبناء عمومتى من نصف عائلتى المصرية بالقاهرة أن يقول)  كتبت نفيرتارى  فى مقدمة وصف نفسها للآلهة وهى تقدم لهم القرابين فى كتاب الخلود تقول أنا من سلالات الطير ولست من سلالات الشجر, تمرق روحى باالآفاق فى لمح البصر, وأصعد للآلهة أنهل منهم العلم لرعيتى , وشراييني تتلقى الحكمة من أشعة ضوء القمر, أحزن كالأسماك وفي عيناي ألوان الصواري, وأقرأ فى أجنحة الصقور صلاوات النيل وفى عواء الذئاب مواقيت السَفَر 


وبقراءة متقنة لتلك الكلمات نستخلص أن الملكة الهانم كانت تتملكها عقدة النرجسية بقدر ما كانت تتملكها عقدة الإلاهة وسيطة الخلود ومانحة الهداية لرعيتها الضالة بدون حكمتها , وأيضاً يبدو أنها كانت تتملكها بعض نوبات  الإكتئاب بين الحين والآخر,  ربما لأن زوجها الفرعون العظيم رمسيس كان مشغولاً بالحروب وبناء صروح شامخة ومحاريب وتماثيل تخلد تاريخه وقد برع فى ذلك إلى حدود مذهلة


وفى صغرى كمصرى خليط الدماء كنت أتوق لمعايرة أقرانى الأميريكانز فى المدرسة الأولية هنا فى  الولايات المتحدة بأنهم سلالات قوم بلا تاريخ,  وأطالبهم باعتبارى سليل الفراعنة العظام أن يقدموا لى قرابيناً بعد كل درس من دروس تاريخ مصر القديمة والتى كانت من أكثر مقررات الدراسة إثارة لنا فى سنوات عمرنا الولى 


وبقدر ما كان تاريخ مصر القديم وانتمائى إلي دماء أبى المصرية يمنحنى ذلك الغرور الصبوى وسط أقران سنوات الصبا الأولى فى المدرسة الأولية  والذين  أبهرتهم حضارة مصر القديمة والهالة الأسطورية التى أحاطت كل شيء نسب إليها,  كان ذلك الغرور يتحطم حطاماً كارثياً فى الثلاثة أيام لنهاية الأسبوع التى كنت أحضر فيهم المدرسة الإسلامية العربية فى المركز الإسلامى مع أقران كانوا إما مثلى من دماء مخلوطة أو من دماء  غير مخلوطة حيث كنا نتعلم حقائق تلك الحضارة الكهنوتية التى كرست كل مقدراتها لعبادة الفرعون الفرد الإله المتجبر من منظور هويتنا الإسلامية وهناك تعلمت مبادئ اللغة العربية وقرأت القرآن والحديث والتاريخ العربى والإسلامى الذى من خلاله تحددت هويتى وتتطور واكتمل انتمائى العقائدى وتأصلت رغبتى المستقبلية فى قراءة لتاريخ السياسى لمصر والأدب العربى


وأي قارئ لتاريخ مصر القديم لا يجد صعوبة فى التعرف على تلك الظاهرة التى خصص فيها الشعب المصرى الذى بنى حضارة مذهلة بكل المعايير فى  خمسة آلاف من السنين عددا,  عبد فيهم الإلاه الفرعون ثم شهدت دولتهم العظيمة سقوطاً مهيناً مع آخر فرعون من دماء مصرية خالصة وهو يهرب جنوباً إلى إثيوبيا أمام جحافل قمبيز الأول إمبراطور الدولة الفارسية ليحتل الفرس مصر قرابة الثلاثمائة وخمسين عاماً من الزمن حتى جاء ألكساندر العظيم الملك  الإجريجى من ماسيدونيا ويطرد الأفارس ويبنى أعظم مدينة فى 
التاريخ القديم لا تضاهيها واحدة أخرى,  والتى تحمل إسمه حتى لحظتنا هذه وتتضائل أمامها روما فى كل حقبها التاريخية القديمة , ويترك البلاد لكبير قادته توليمى الأول الذي أعاد مجد الدولة المصرية , وبخاصة فى عهد حفيدته كليوباترا السابعة التى كانت واحدة من سبع ملكات يحملن نفس الإسم كانت هى آخرهن وأكثرهن حسناً وأكثرهن جدلاً وتأثيراً فى تلك الحقبة الهامة من تاريخ مصر


و أثناء زيارتى الأخيرة لمصر كان من أهم معالم الحضارة التى وضعت زيارتها فى أولويات اهتمامى زيارة دار المخطوطات الإسلامية,  والتى أعيد تسميتها دار الكتب. وقد كتبت مقالتين عن دار الكتب إحداهما فى اللغة العربية هنا لأنها صنفت فى اليونسكو واحدة من أعظم معالم الحضارة الإنسانية قاطبة


.فى دار الكتب وقع نظرى على  إصدار حديث عن دار نشر يبدو أنها من دور التراث الثقافى العربى بالغ السيط تسمى دار الهلال , وكان ذلك الإصدار مجلد وثائقى عن حكام مصر على مر العصور بالصور والتاريخ,   وأبحاث كاملة عن كل حاكم وتاريخه وإنجازاته وعن كيفية تعامل شعب مصر معهم وبخاصة هؤلاء الذين استثاروا مشاعر شعب وادى النيل الوديع,  وبالرغم من أن ما قرأته تطلب إلماماً تاماً ليس فى اللغة العربية فحسب ولكن فى دقائق الفولكلور لمصرى كاملاً فإن من حسن حظى أننى لم أكن بدون عون ومساعدة من كل من كانوا حولى توضيح معانى المفردات العامية التى لم أجدها فى معاجم اللغة العربية المنتشرة على النترنت 


ولقد كنت سمعت كثيراً ولمست بنفسى حقيقة أن الشعب المصرى يتمتع بدرجة عالية من الذكاء الفطرى وأول مشاهد تلك الظاهرة هى انتشار روح الفكاهة  فيه أو ما يعرف فى كل الأوساط العربية ب  خفة الدم المصرى, والذى قرأته كان من نوادر تلك الظاهرة فيما يتعلق بكيفية تعامل الشعب الذكى الوديع مع بعض هؤلاء الحكام


ومن أطرف ما قرأت فى ذلك الإصدار هو أن المصريين كانوا " زهقانين" من الحكام الأجانب ولذلك فقد عرف تاريخ مصر كثيراً من الثورات والانتفاضات عندما كان الشعب قادراً على ذلك , وفى الأزمنة التى لم يستطيعوا فيها القيام بثورات حاربوهم بالكلام حتى أن المؤرخ المصرى  إبن إلياس كتب يقول فى مخطوطه الكبير " بدائع الزهور فى وقائع الدهور":  " إن حملت الأنفس ما لا تطيق أطلقت الألسن ما لا يليق" ... ويصف ابن  الياس  تلك الحرب الكلامية التى كان يشنها المصريون ضد طغيان حكامهم الأجانب بتلك الوصاف


المقابحة , المشاتمة , التشهير , التجريس , السباب , الهجاء , الردح , الزعيق , التقليس , التشليق , المعايرة , النأورة , التريقة , البلضمة , الشلضمة , البرطمة , الرطننة , البرجمة , الزنجرة , البهدلة , المأمزة , النأمزة , النقذقة , اللعلعة , اللعننة , الولولة , الدعاء , النواحة , النياحة , الزبلحة , القر , العياط , الصريخ , وأخيراً .... الطرطقة


هكذا نشرت دار الهلال فى عددها الخاص الصادر بمناسبة إعادة انتخاب الفرعون المخلوع للمرة الرابعة عن المؤرخ المصرى الكبير  إبن إلياس

وإننى أستطيع أن أتصور أننى أفهم معانى الكثير مما كتب  ابن إلياس عن لسان شعب مصر , فأستطيع أن أفهم المقابحة والمشاتمة والسباب والدعاء والصريخ والتشهير , بل أستطيع أن أتصور أننى عرفت ما هى الزنجرة والبرطمة والولولة والردح  بعد أسألة مختصرة , ... وحتى اللعلعة باتت واضحة بعد استفسار سريع


ولكن ما لم أستطيع  تصوره هو إعلان الحرب على المستعمر المستبد ب ال الطرطقة !   ما هى حرب الطرطقة ؟هنا فى الولايات المتحدة يلجأ طلاب المدارس الثانوية إلى تلك النوع من الحرب يعلنونها إعراباً عن تذمرهم ضد سلطات المدرسة الديكتاتورية وبخاصة أمام كاميرات الإعلام ولا يعاقب عليها القانون الجناءى ولكن تعاقب عليها لوائح لتصرف  التهذيبى للمدارس



.ويبدو أن المؤرخ المصرى القديم إبن إلياس وجد ذلك اللون من الحروب طريفاً إلى القدر الةى دفعه لوصف أحداثه وصفاً تفصيلياً. ولا ندرى ربما قرأ طلاب المدارس الأميريكية وصف ابن إلياس وفاتنى هذا الدرس وقت ما كنت منهم وذلك ربما يفسر أن ذلك اللون من الحروب منتشر هنا بين صفوفهم


والطريف فى الأمر أن دار النشر (دار الهلال) رأت غاية الطرافة فى سرد التفاصيل التى وردت من قلم ابن إلياس ربما لعلمه بأ طلاب المدارس الأميريكية مستقبلاً , قارئين طرائفه , سوف يكونون من أوائل جند ذلك اللون من الحروب


ربما كان من الأفضل أن أترك تلك المسائل  لابن إلياس ... فهو المؤرخ وهو الحكيم